سورة يونس - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قال أبو عبيدة وتابعه القتبي وغيره، {يرجون} في هذه الآية بمعنى يخافون واحتجوا ببيت أبي ذؤيب: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عواسل
وحكى المهدوي عن بعض أهل اللغة وقال ابن سيده والفراء: إن لفظة الرجاء إذا جاءت منفية فإنها تكون بمعنى الخوف، وحكي عن بعضهم أنها تكون بمعناها في كل موضع تدل عليه قرائن ما قبله وما بعده، فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال ابن زيد: هذه الآية في الكفار، وقال بعض أهل العلم: الرجاء في هذه الآية على بابه، وذلك أن الكافر المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة ولا يحسن ظناً بأنه يلقى الله ولا له في الآخرة أمل، فإنه لو كان له فيها أمل لقارنه لا محالة خوف، وهذه الحال من الخوف المقارن هي الفائدة إلى النجاة، والذي أقول: إن الرجاء في كل موضع على بابه وإن بيت الهذلي معناه لم يرج فقد لسعها فهو يبني عليه ويصبر إذ يعلم أنه لا بد منه، وقوله {ورضوا بالحياة الدنيا} يريد كانت آخر همهم ومنتهى غرضهم، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: إذا شئت رأيت هذا الموصوف، صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى ولها يفرح ولها يهتم ويحزن، فكأن قتادة صورها في العصاة ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه، إذ قد يكون العاصي المجلح مستوحشاً من آخرته، فأما على التأويل الأول فمن لا يخاف لقاء الله فهو كافر، وقوله {واطمأنوا بها} تكميل في معنى القناعة بها والرفض لغيرها وأن الطمأنينة بالشيء هي زوال التحرّك إلى غيره، وقوله {والذين هم عن آياتنا غافلون} يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى من الكفار وهؤلاء على هذا التأويل أضل صفقة لأنهم ليسوا أهل دنيا بل غفلة فقط، ثم حتم عليهم بالنار وجعلها {مأواهم}، وهو حيث يأوي الإنسان ويستقر، ثم جعل ذلك بسبب كسبهم واجتراحهم، وفي هذه اللفظة رد على الجبرية ونص على تعلّق العقاب بالتكسب الذي للإنسان، وقوله تعالى:
{إن الذين آمنوا}. الآية لما قرر تبارك وتعالى حالة الفرقة الهالكة عقب ذلك بذكر حالة الفرقة الناجية ليتضح الطريقان ويرى الناظر فرق ما بين الهدى والضلال، وهذا كله لطف منه بعباده، وقوله {يهديهم} لا يترتب أن يكون معناه يرشدهم إلى الإيمان لأنه قد قررهم مؤمنين فإنما الهدى في هذه الآية على أحد وجهين: إما أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم، كما قال
{يا أيها الذين آمنوا آمنوا} [النساء: 136] فإنما معناه اثبتوا، وإما أن يريد يرشدهم إلى طرق الجنان في الآخرة، وقوله: {بإيمانهم} يحتمل أن يريد بسبب إيمانهم ويكون مقابلاً لقوله قبل {مأواهم النار بما كانوا يكسبون}، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى، أي يهديهم إلى طرق الجنة بنور إيمانهم، قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم نوراً يمشون به ويتركب هذا التأويل على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول: من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة، وبعكس هذا في الكافر»، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره وقوله {تجري من تحتهم الأنهار} يريد من تحت علياتهم وغرفهم وليس التحت الذي هو بالمما سة بل يكون إلى الناحية من الإنسان كما قال تعالى: {جعل ربك تحتك سرياً} [مريم: 24] وكما قال حكاية عن فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51] وقوله {دعواهم} الآية، الدعوى بمعنى الدعاء يقال دعا الرجل وادعى بمعنى واحد، قاله سيبويه، {وسبحانك اللهم} تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله عن كل ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه، وقال طلحة بن عبيد الله: قلت يا رسول الله، ما معنى سبحان الله؟ فقال: معناها تنزيه الله من السوء، وقد تقدم ذكر خلاف النحاة في {اللهم}، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رأوا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن في الجنة عندما يشتهي الطعام فإنه إذا رأى طائراً أو غير ذلك قال: {سبحانك اللهم} فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى، رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة، وقوله {وتحيتهم فيها سلام} يريد تسليم بعضهم على بعض، والتحية مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها، يقال حياه يحييه، ومنه قول زهير بن جناب: [مجزوء الكامل]
من كل ما نال الفتى *** قد نلته إلا التحية
يريد دعاء الناس للملوك بالحياة، وقد سمي الملك تحية بهذا التدريج ومنه قول عمرو بن معديكرب:
أزور أبا قابوس حتى *** أنيخ على تحيته بجندي
أراد علي مملكته وقال بعض العلماء {وتحيتهم} يريد أن تسليم الله عز وجل عليهم، والسلام مأخوذ من السلامة، وقوله {وآخر دعواهم} يريد وخاتمة دعواهم في كل موطن وكلامهم شكر الله تعالى وحمده على سابغ نعمه، وكانت بدأتهم بالتنزيه والتعظيم، وقرأ جمهور الناس {أن الحمد لله} وهي عند سيبويه أن المخففة من الثقيلة، وقرأ ابن محيصن وبلال بن أبي بردة ويعقوب وأبو حيوة {أنّ الحمد لله}، وهي على الوجهين رفع على خبر الابتداء، قال أبو الفتح: هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة هي أن المخففة من الثقيلة بمنزلة الأعشى: [البسيط]
في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أنْ هالك كلُّ من يحفى وينتعل


هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا} فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً، و{استعجالهم} نصب على المصدر، والتقدير مثل استعجالهم، وقيل: التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم، وهذا قريب من الأول، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] وقيل نزلت في قوله {آتنا بما تعدنا} [الأعراف: 77] وما جرى مجراه، وقرأ جمهور القراء {لقُضي} على بناء الفعل للفاعل ورفع {الأجلُ} وقرأ ابن عامر وحده وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب، {لقضى} على بناء الفعل للفاعل ونصب {الأجلَ}، وقرأ الأعمش: {لقضينا}، و{الأجل} في هذا الموضع أجل الموت، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داودُ أوْ صَنَعُ السوابغِ تبع
وأنشد أبو علي في هذا المعنى: [الطويل]
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها *** فوائح في أكمامها لم تفتق
وتعدّى {قضى} في هذه الآية ب إلى لما كان بمعنى فرغ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام، فمن ذلك قول جرير:
ألانَ فقد فرغت إلى نُمَير *** فصرت على جماعتها عذابا
ومن الآخر قوله عز وجل {سنفرغ لكم أيه الثقلان} [الرحمن: 31] وقرأ الأعمش: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا}، و{يرجون} في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله، والرجاء مقترن أبداً بخوف، والطغيان الغلو في الأمر وتجاوز الحد، والعمه الخبط في ضلال، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحياناً سوء الخلق على الدعاء في الشر، فلو عجل لهم لهلكوا، وقوله تعالى: {وإذا مسّ الإنسان الضر} الآية، هذه الآية أيضاً عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا والأمر بالتسليم إلى اللع تعالى والضراعة إليه في كل حال والعلم بأن الخير والشر منه لا رب غيره، وقوله {لجنبه} في موضع حال كأنه قال: مضطجعاً، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان والعامل فيه {مس}، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في {دعانا} والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان، و{الضر} لفظ لجميع الأمراض، والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين، وقيل هو مختص برازيا البدن، الهزال والمرض، وقوله {مر} يقتضي أن نزولها في الكفار ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص، فمعنى الآية {مر} في إشراكه بالله وقلة توكله عليه، وقوله {زين} إن قدرناه من الله تعالى فهو خلقه الكفر لهم واختراعه في نفوسهم صحبة أعمالهم الفاسدة ومثابرتهم عليها، وإن قدرنا ذلك من الشيطان فهو بمعنى الوسوسة والمخادعة، ولفظة التزيين قد جاءت في القرآن بهذين المعنيين من فعل الله تعالى ومرة من فعل الشياطين.


هذه الآية وعيد للكفار وضرب أمثال لهم، أي كما فعل هؤلاء فعلكم فكذلك يفعل بكم ما فعل بهم، وقوله، {وما كانوا ليؤمنوا} إخبار عن قسوة قلوبهم وشدّة كفرهم، وقرأ جمهور السبعة وغيرهم: {نجزي} بنون الجماعة، وفرقة {يجزي} بالياء على معنى يجزي الله، و{خلائف} جمع خليفة، وقوله {لننظر} معناه لنبين في الوجود ما علمناه أزلاً، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقرأ يحيى بن الحارث وقال: رأيتها في الإمام مصحف عثمان، {لنظر} بإدغام النون في الظاء، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء لينظر كيف عملنا فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضاً يقول: قد استخلفت يا ابن الخطاب فانظر كيف تعمل؟ وأحيانا كان يقول قد استخلفت يا ابن أم عمر، قوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} الآية، هذه الآية نزلت في قريش لأن بعض كفارهم قال هذه المقالة على معنى ساهلنا يا محمد واجعل هذا الكلام الذي هو من قبلك على اختيارنا وأحل ما حرمته وحرم ما حللته ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة، فذم الله هذه الصنعة وذكرهم بأنهم يقولون هذا للآيات البيّنات، ووصفهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث، ثم أمر الله نبيه عليه السلام أن يرد عليهم بالحق الواضح وأن يستسلم ويتبع حكم الله تعالى ويعلم بخوفه ربه، واليوم العظيم يوم القيامة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8